مقدمة
شهدت السنوات الأخيرة تصاعد الاهتمام بتقنية البلوك تشين، خاصة في مجالات التمويل، حيث برزت تطبيقات التمويل اللامركزي (DeFi) كإحدى الأدوات الناشئة التي تسعى إلى إعادة تشكيل نماذج الإقراض التقليدية، وفي هذا السياق، بدأ البعض في استكشاف إمكانيات استخدام هذه التقنية في مجال تمويل العقارات، برز دور التكنولوجيا المالية (FinTech) وتقنيات البلوك تشين كبدائل واعدة تُعيد تشكيل العلاقة بين المطورين، والمستثمرين، والمشترين النهائيين، من خلال مفاهيم مثل الرهون العقارية المرمّزة والقروض العقارية عبر منصات لامركزية، مما أثار نقاشًا واسعًا حول مدى قابليتها للتطبيق في الأسواق المختلفة، مع الفارق بين المفهومين حيث أن الـ FinTech يحاول تطوير النظام المالي التقليدي والـ DeFi يحاول استبدال النظام بالكامل، وقد بلغ سوق الـ Fin Tech في عام 2024 222 مليار دولار ويستمر في النمو ليصل إلى 1818 مليار دولار في عام 2035 وذلك وفقاً لتقرير أصدره rootsanalysis.

ترميز الأصول العقارية
من بين النماذج المبتكرة التي بدأت تكتسب زخمًا متزايدًا في القطاع العقاري، يبرز مفهوم “ترميز الأصول العقارية” كأداة جديدة تعيد رسم ملامح التمليك والتمويل، تقوم الفكرة على تحويل الوحدة العقارية إلى رموز رقمية (Tokens) يمكن تداولها عبر منصات قائمة على البلوك تشين، سواء بشكل كلي أو جزئي، بما يشبه إلى حد كبير آلية تداول الأسهم في الأسواق المالية، ويمنح هذا النموذج المطورين وسيلة فعالة للحصول على سيولة دون الاعتماد على القروض التقليدية، كما يتيح للمستثمرين الأفراد الدخول إلى السوق العقاري بأحجام استثمار صغيرة، مما يوسّع قاعدة المشاركة ويرفع من كفاءة السوق. كما يوفّر هذا النموذج مستوى أعلى من الشفافية وسهولة التتبع بفضل اعتماد المعاملات على تقنيات البلوك تشين، حيث تُسجل جميع العمليات بشكل غير قابل للتعديل، مما يقلل من مخاطر التلاعب ويعزز ثقة المستثمرين، كذلك يُسهِم ترميز الأصول في زيادة سيولة العقارات، التي تُعد تقليديًا من الأصول الأقل سيولة، من خلال إتاحة بيع وشراء الحصص في أي وقت ومن أي مكان، دون الحاجة إلى إجراءات قانونية معقدة أو وسطاء متعددين، وعلى المدى الأوسع، يفتح هذا التوجه آفاقًا أمام الاستثمار العقاري العابر للحدود، حيث يمكن لمستثمر من أي دولة أن يشتري رموزًا تمثل حصة في مشروع عقاري في بلد آخر بسهولة تامة، وبهذا لا يمثل ترميز الأصول مجرد وسيلة تمويل بديلة، بل يُعد خطوة نحو تحويل الاستثمار العقاري إلى أداة متاحة لفئات أوسع من المجتمع، بما يواكب التوجهات العالمية نحو الشمول المالي والتحول الرقمي.
وتشير بعض التقديرات إلى أن سوق ترميز العقارات بلغ حجمه نحو 3.5مليار دولار في عام 2024، مع توقعات بأن يصل إلى نحو 19.4 مليار دولار بحلول 2033، بمعدل نمو سنوي يقارب 21%، وفقًا لتقرير صادر عن Custom Market Insights.
التمويل اللامركزي
يُشير مصطلح التمويل اللامركزي (DeFi) إلى منظومة من الخدمات المالية الرقمية القائمة على شبكات البلوك تشين، والتي تتيح تنفيذ المعاملات المالية دون الحاجة إلى وسطاء تقليديين مثل البنوك أو شركات التمويل، ويعتمد هذا النموذج على العقود الذكية لتنفيذ العمليات بشكل تلقائي وآمن، مما يوفّر بيئة مالية مفتوحة، شفافة، وأكثر مرونة، تتيح للمستخدمين تنفيذ أنشطة مثل الاقتراض، وتداول الأصول بشكل مباشر، وسريع، ومنخفض التكلفة، ويشير تقرير صادر عن precedence research إلى أن سوق التمويل اللامركزي بلغ حوالي 21 مليار دولار في عام 2024 مع توقعات باستمرار نموه ليصل إلى 1013 مليار دولار بحلول عام 2033.

في قطاع العقارات، يفتح DeFi آفاقًا جديدة لتغيير الطريقة التي يُدار بها التمويل العقاري، إذ يمكن استخدامه لتوفير قروض عقارية رقمية بضمان الأصول المرمّزة (Tokenized Assets)، دون الحاجة إلى البنوك أو الجهات التمويلية التقليدية، كما يُسهم في تمكين الملكية جزئية والاستثمارات العابرة للحدود، حيث يستطيع المستثمرون من أي مكان في العالم المشاركة في مشروعات عقارية من خلال شراء رموز تمثل حصة من الأصل العقاري، وتداولها لاحقًا بحرية على منصات لامركزية.
ومن خلال الجمع بين التمويل اللامركزي وترميز العقارات، يصبح من الممكن خلق سوق عقاري رقمي أكثر سيولة وشمولًا، يُتيح الوصول إلى فئات جديدة من المستثمرين، ويقلل من العوائق التقليدية المرتبطة بالتكلفة، والإجراءات القانونية، والقيود الجغرافية، ورغم التحديات التنظيمية التي لا تزال قائمة، فإن دمج DeFi في القطاع العقاري يمثل خطوة استراتيجية نحو بناء نظام تمويلي أكثر كفاءة ومرونة يتماشى مع التحول الرقمي العالمي.
أثر التمويل اللامركزي على البنوك وشركات التمويل التقليدية
مع تطور التمويل اللامركزي، بدأت البنوك وشركات التمويل التقليدية تدرك أن هذا الاتجاه لا يمثل مجرد ابتكار تقني، بل تحول هيكلي قد يُعيد رسم دور المؤسسات المالية في المستقبل، حيث تعتمد DeFi على عقود ذكية وشبكات بلوك تشين لإجراء معاملات مالية دون الحاجة إلى وسطاء، ما يهدد بقاء نماذج الأعمال القائمة على الرسوم والعمولات، ويُقلل من هيمنة البنوك على منح القروض والتمويل العقاري، وبالتالي ظهر ما يسمي CeDeFi (centralized decentralized finance).
ومن أبرز النماذج القائمة على الدمج بين التمويل اللامركزي (DeFi) والأنظمة المركزية التقليدية في قطاع العقارات، منصة RealT الأمريكية، التي تُعد مثالًا رائدًا على نموذج CeDeFi في الاستثمار العقاري. تتيح المنصة للمستخدمين شراء حصص صغيرة من عقارات حقيقية في الولايات المتحدة من خلال رموز رقمية (Tokens) مدعومة بعقود قانونية واضحة، مع التحقق من الهوية (KYC) والامتثال للضوابط التنظيمية، مما يوفّر تجربة استثمارية تجمع بين مزايا الشفافية والسيولة التي يقدّمها البلوك تشين، ودرجة الأمان والانضباط القانوني الذي توفره الأنظمة التقليدية، يحصل المستثمرون على عوائد إيجارية منتظمة تُوزَّع تلقائيًا باستخدام العقود الذكية، مما يجعل RealT نموذجًا تطبيقيًا فعّالًا لدمج الابتكار المالي مع سوق العقارات الفعلي.
فرص التمويل اللامركزي في السوق المصري
في السياق المحلي لا تزال تطبيقات البلوك تشين في مجال تمويل العقارات في مراحلها المبكرة، حيث تشير بيانات تقرير Precedence Research إلى أن أمريكا الشمالية تستحوذ على الحصة الأكبر من سوق التمويل اللامركزي بنسبة تفوق 33% حتى عام 2024، تليها آسيا والمحيط الهادئ بنحو 30%، ثم أوروبا بنسبة 24%، أما أمريكا اللاتينية فتمثل 8%، وتُعد مصر جزءًا من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا التي تمثل مجتمعةً حصة لا تتجاوز 3% من سوق التمويل اللامركزي مما يوضح محدودية مساهمة المنطقة في هذا المجال.

ومع ذلك فإن التوسع في التحول الرقمي بالسوق المصري، خاصةً في المدن الجديدة والمشروعات القومية الكبرى، يفتح آفاقًا لبحث فرص توظيف نماذج مثل ترميز الأصول العقارية كأدوات تمويل بديلة، غير أن هذا التوجه يطرح في الوقت ذاته تساؤلات حول مدى الجاهزية التنظيمية والتقنية لتبني مثل هذه الحلول على المدى القريب.